حاولت كشف فساد أخلاقي في الكنيسة فكسروا رقبتها
الخادمة والكاهن
قصة فتاة الإسكندرية التي تهدد بتفجير عرش الأساقفة
لم أكن أتوقع أن أنشر هذه القصة أبدًا.
منذ أكثر من ثمانية شهور جلست مع هايدي غبريال في أحد الأماكن العامة بالإسكندرية.. رفضت أن تكشف عن اسمها ، تحدثت فقط عما لديها بالرموز والإشارات والأسماء المجهلة.
شابة في بدايات الثلاثينات، حاصلة علي مؤهل جامعي ، من أسرة عريقة.. تعرضت لعنف واضح، أدركته دون أن تدلني عليه من الرقبة الطبية التي تحيط بعنقها.. وتعرضت لضغوط نفسية هائلة.. بدت من علامات الاكتئاب التي ظهرت علي وجهها.. والمرارة التي تعلقت بحروف كلماتها.
علي مدي أكثر من ثلاث ساعات حكت قصتها التي يمكن أن ألخصها باختصار شديد في أنها كانت تتطوع بالخدمة في إحدي كنائس الإسكندرية.. والدها طبيب مرموق.. ووالدتها تعمل مدير عام بدرجة وكيل وزارة، وهي وحيدة والديها، في بيتهم تعرفت علي أحد الأساقفة كان يزورهم باستمرار.. كان يعاملها كابنة، وكانت تعتبره أبًا حقيقيًا لها وليس أبًا روحيًا فقط.
لكن هذه المعاملة تغيرت.. جمعها به موقف أثناء عملها بالكنيسة - التي رفضت أيضا أن تدلني علي اسمها - فوجدته يلمح لها تلميحات مستفزة.. بل حاول أن يمد يده عليها فرفضت.. واعتبرت أنه بذلك يدنس بيت الرب.. كذبت نفسها في البداية.. فليس معقولاً أن يكون ما جري حقيقيًا.. لكن أخذتها الصاعقة عندما تحدثت معه في التليفون لتعاتبه علي ما جري، فقال لها:ولماذا ترفضين، فهي ليست أحسن من غيرها، وما كان سيحدث معها حدث مع أخريات.
كانت الصدمة للمرة الثانية أشد.. فقامت بالتسجيل له . استدرجته في الكلام حتي أعاد ما قاله كله مرة ثانية.. وأصبح لديها الدليل علي وجود فساد أخلاقي في الكنيسة.. وعلي بجاحة رجل دين المفروض أنه راعٍ فإذا بها تكتشف أنه يرتدي مسوح ذئب.
قررت ألا تسكت.. حاولت أن تصل إلي البابا شنودة عبر أكثر من وسيط، لكنها لم تستطع، وفي إحدي المرات التي كانت متواجدة فيها بالكنيسة اعتدي عليها أحد الكهنة المقربين من الأسقف المتهم.. وكاد يقتلها، لولا أن خلصها بعض الموجودين من يديه، لكن الاعتداء لم يمر بسلام.. فقد كسرت بعض فقرات رقبتها.. وخضعت - ولا تزال - لعلاج مستمر.
كان الكاهن يريد أن يثبت لسيده أنه مخلص له، وأنه يعاقب كل من يقترب منه بسوء.. لكنه لم يعرف أنه في الوقت نفسه زادها إصرارًا علي أن تواصل طريقها لكشف ما يفعله الأسقف.
سألتها: ماذا تريدين مني بالضبط؟
قالت: أريد أن يصل صوتي إلي البابا.. أن يعرف ما جري.. أن يجري تحقيقا فيما حدث معي.. وأن يطهِّر الكنيسة مما يحدث من أحد أفرادها.. وأن تظهر حقيقة هذا الرجل للناس.
قلت لها: هل تريدين أن أنشر الحكاية؟
رفضت بإصرار وقالت إنها لا تريد فضحًا للكنيسة ولا تشهيرًا بها، فما حدث ليس ظاهرة عامة.. ولكنه خطأ فرد لابد أن يعاقب وينتهي الأمر.. ثم قالت وهي الفتاة التي لم تكن تتابع صحفًا علي الإطلاق: أنا أعرف أنهم يمكن أن يتمسكوا بالعند.. فإذا نشرت سيعتبرون ما أفعله تشهيرًا بالكنيسة ولا يتغير شيء من الأساس.
وعدتها بعدم النشر.. كانت القصة كلها بين يدي.. فأودعتها درج مكتبي دون اهتمام، فصاحبة الشأن لا تريد نشرًا بل تريد تحقيقًا.. لا تريد فضحًا بل تريد تطهيرًا.
جاءني صوتها أكثر من مرة.. بعد ساعات قليلة من تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية والتي راح ضحيتها 21 قبطيًا دون ذنب إلا أنهم تجمعوا من أجل الصلاة ، سمعتها تبكي وتقول: إنها تخشي أن يكون ما جري عقابًا من الله.. لأن أحدًا لم يسمع لها (لم تكن تعلم أنه لم يكن عقابا سماويًا.. بل كان خسة ودناءة أرضية برعاية وزارة الداخلية).
ثم اتصلت بي بعد ذلك تطلب رقم تليفون الدكتور محمد سليم العوا.. وخمنت أنها تريد منه أن يتوسط لها عند البابا شنودة ليقابلها.. بعد أن فشلت تماما في أن تقابله.. رغم أنها جاءت من الإسكندرية وهي مريضة وجلست في المقر البابوي أكثر من مرة.. لكن من يملكون مفاتيح أبواب البابا أغلقوا بابه في وجهها.. ولا أعرف علي وجه التحديد هل قابلت الدكتور العوا أم لا.. وهل حاول مساعدتها في أن تقابل البابا أم لا؟
لكنني عرفت بعد ذلك أنها قابلت الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر في مكتبه، وضعت أملها علي العلاقة القوية والوثيقة بينه وبين البابا، وأنه يمكن أن يكون مفتاحا سهلاً لبابه، وضعت القصة كاملة أمام الدكتور الطيب ، وطلبت منه أن يكون وسيطها لدي البابا، ووعدها أن يفعل.. بعد أن استقبلها بحنو بالغ.. لكن يبدو أن حالة البابا الصحية حالت دون أن يحصل منه الدكتور الطيب علي موعد لها.
إذا كانت صاحبة القضية طلبت ألا أنشر.. وإذا كانت الحالة فردية.. وإذا كانت فشلت تماما في أن تقابل البابا شنودة.. فما الذي يدفعني الآن إلي النشر؟
الأمر باختصار أيضًا أن هايدي غبريال كانت قد تعرفت علي الشاعرة فاطمة ناعوت التي بدأت تكتب في الشأن القبطي منذ فترة قصيرة، وجمعت حولها عددا كبيرًا من شباب الأقباط تعاملوا معها علي أنها مناصرة للقضية القبطية، بل أصبحت ضيفة دائمة علي الكثير من الندوات التي تعقد في الكنائس، تتحدث وتناقش وتدافع وتهاجم وتجيب عن الأسئلة.. وهي حرة في ذلك تماما حتي لو كانت تتقاضي عن حديثها في النداوت أجرًا.. كما أن من يدعونها أحرار حتي لو كانوا يدفعون لها علي قدر استطاعتهم.
معرفة هايدي غبريال بفاطمة ناعوت تحولت إلي صداقة عميقة وإعجاب من جانب فتاة الإسكندرية بشاعرة القاهرة.. وحكت خادمة الكنيسة للشاعرة ما جري معها، كما سبق وحكت لدائرة محدودة ممن تعرفهم.. لكن المفاجأة أن فاطمة ناعوت نشرت قصة هايدي علي الفيس بوك.. وأصبح ما كان يقال همسا منشورا وما كان سرا مكشوفا، وعلي نطاق واسع جدا.
تطورت الأمور ودخلت علي الخط نجلاء الإمام المتنصرة الشهيرة وهددت فاطمة ناعوت بأن تكشف أسرارها كما تجرأت وكشفت ستر بنت المسيح، بل غمزت نجلاء الإمام ولمزت في سيرة فاطمة ناعوت، وهو ما زاد الأمر اشتعالا ًعلي صفحات الفيس بوك.
وبذلك تحولت القضية النبيلة التي كان يمكن لها أن تكشف فسادا ضخما لدي أحد رجال الكنيسة إلي مجرد خناقة بين ثلاث سيدات.. كل واحدة منهن تدافع عن نفسها وترمي الأخري بما لم يقله مالك في الخمر.. وكأن الأمر أزمة شخصية تريد كل واحدة منهن تصفيتها علي طريقتها.
الغريب أن هناك من بين منظمات أقباط المهجر تحديدًا في الولايات المتحدة الأمريكية من أصدرت بيانًا حاد اللهجة يحذر من الهجوم علي فاطمة ناعوت، لأنها تدافع عن قضايا الأقباط، ولا يجب أن يمسها أحد بسوء.
وفي المقابل يخرج من يدافع عن خادمة الكنيسة ويبرر لها ما فعلته، ويلقي باللوم كله علي الشاعرة التي استأمنتها صديقة علي أسرارها فإذا بها تفضحها بل تتهمها بعد ذلك بأنها مختلة عقليًا، وتتوهم أشياء ليست حقيقية.. تسييء من خلالها إلي الكنيسة ورجالها دون ذنب اقترفوه.
دخلت هايدي غبريال في إضراب عن الطعام منذ الأربعاء الماضي، ليس احتجاجا علي ما فعلته بها فاطمة ناعوت، ولكن لأنها تريد أن تقابل البابا شنودة.. أن تجلس أمامه، وتحكي له كل ما جري.. ليس من باب الإساءة إلي الكنيسة، ولكن من باب أن هناك عنصرًا فاسدًا ولابد من استئصاله حتي لا ينتشر المرض في أوصال الكنيسة كلها.
قد يعتبر البعض أن ما حدث مع خادمة الإسكندرية أمر تافه ولا يجب أن يلتفت له أحد.. لكن إذا نحينا التفاصيل الخاصة التي يمكن أن تكون مصدر إثارة في الموضوع جانبًا، ووضعنا الأمر في موضعه وحجمه الطبيعي، سنجد أنفسنا أمام كارثة.. فهذه الواقعة تلخص مصيبة الكنيسة وسر تدهورها وانصراف كثيرين من أبنائها عنها.
كان يمكن لأي أسقف من الأساقفة الذين لجأت إليهم خادمة الإسكندرية أن ينهي الأمر بأن يحدد لها موعدًا مع البابا شنودة، وبعد أن يصبح الأمر أمام الرجل الكبير في الكنيسة تنتهي علاقة الأساقفة بالأمر.
لقد جلست مع الأنبا بيشوي الرجل المقرب من البابا شنودة والرجل القوي في الكنيسة بل المسئول عن المحاكمات الكنسية، وما جري يصب في اختصاصه مباشرة، لكنه لم يقدم لها شيئا.. وذهبت إليه في دير القديسة دميانة أكثر من مرة ووسطت لديه كثيرين دون أن تظفر منه بشيء يذكر.
تحدثت مع الأنبا مرقص أسقف شبرا الخيمة.. وتحدثت مع الأنبا بسنتي أسقف حلوان.. لكنها لم تجد أذنا واحدة تصغي إلي ما تقوله ولا إلي ما معها من مستندات.. أقلها «سي دي» عليه تسجيل صوتي.. يحمل اعترافًا صريحًا من هذا الأسقف بأنه فعل ما فعل.. دون أن يستبشع شيئا مما جري.
كل ما وجدته كان كلامًا من قبيل أنها يجب أن تحافظ علي الكنيسة.. وأنه ليس معقولا أن يحاكم أسقفا من أجل ما تقوله حتي لو كان حقيقيًا.. وأن الكاهن الذي ضربها بعنف حتي أوشكت علي الموت يمكن أن يعاقب.. لكن حتي هذا لم يحدث علي الإطلاق.. فقد ظلت الضحية علي حالتها.. وأكمل الكاهن ومن معه صخبهم ومرحهم في الكنيسة دون أن يقترب منهم أحد.
إننا أمام دولة تحمي نفسها.. هي دولة الأساقفة التي يتعامل من ينتمون إليها علي أنهم صف واحد يشد بعضه بعضًا ، ولا يمكن لأي منهم أن يسلم أخاه.
إن الأسقف الذي تتحدث عنه خادمة الإسكندرية التي لا أشك أبدًا في قواها العقلية أو أنها تعاني من شيء كما تري فاطمة ناعوت.. هو نفسه من تعرضت له قبل سنوات.. وكتبت بالمستندات عن مخالفات مالية تجري في إبراشيته، وطالبته هو أن يحقق فيها أو أن يحقق فيها من هو أعلي منه، واعتمدت في هذه الحملة علي مصادر لا أشك في صدقهم ونزاهتهم .. لكن لم يتحرك أحد علي الإطلاق.. وكأن هناك حماية سماوية تمنع هؤلاء من العقاب.. وكأنهم آلهة فوق البشر لا يجب أن يمسهم أحد أو يقترب منهم مخلوق لا بالخير ولا بالشر.. لا بالحق ولا بالباطل.
كان هدف هايدي غبريال أن تكشف هذا الأسقف من أجل ألا تقع أخريات في طريقه.. رأت أن مقامه ودوره الروحي لا يسمح له بأن يفعل ما يفعل حتي لو كانت محاولات عادية.. لم تهدف إلي فضحه أو تجريسه أو الإساءة إلي الكنيسة، فلو أرادت ذلك من البداية لفعلت.. ولسربت «السي دي» الذي عليه المكالمات إلي الصحف - أعرف أن هذا «السي دي» موجود لدي بعض الأشخاص المحيطين بها حتي الآن لكنها أوصتهم بألا يخرجوه أبدًا.
إنني أبتعد بهذه القضية عن حالة الهزل التي أدخلتها فيها فاطمة ناعوت بما كتبته علي الفيس بوك عن صاحبة الأزمة والمشكلة.. وأضعها في مكانها وموضعها الصحيح، أعرف أن البابا شنودة مشغول الآن بأموره الصحية التي من المؤكد أنها تشغله عن متابعة أمور رعاياه.. لكن ليس كثيرًا أن يأمر أحد رجاله المخلصين بأن يتابعوا هذه القضية.
عنوان خادمة الإسكندرية معروف.. معها كل ما يثبت ما قالته.. لا تفتري علي أحد.. فقط تريد أن تقابل البابا شنودة.. تحصل من وقته الثمين علي أقل من عشر دقائق فقط لتعرض عليه ما لديها، وأعتقد أن عشر دقائق ليست كثيرة يا قداسة البابا علي فتاة تريد أن تخلص الكنيسة من بعض ما ألم بها.. إنها كما يقولون.. لا خير فيها إن لم تقلها.. ولا خير فيك إن لم تسمعها.. فاسمعها من أجل الخير والحق.. لا أكثر ولا أقل.
إننا أمام فتاة عادية جدا.. كان يمكن لها أن تصمت وتعتبر ما جري معها حدثًا عابرًا.. ويمكن أن تتعرض له ليس في الكنيسة فقط، ولكن في أي مكان، لكنها قررت أن تتحدث لتشكل خطرا حقيقيا.. فلو جري تحقيق محايد من أي جهة فإنها لن تضع الأسقف المقصود في حرج فقط، ولكنها ستضع عددا كبيرا من الأساقفة في مأزق.. فهو أخطأ.. وهم تستروا عليه.. وهنا من تستر كمن أخطأ تماما.